فقولنا: إن محمداً خليل الله أو خليل الرحمن أعلى وأفضل من قولنا: حبيب الله أو حبيب الرحمن، ولهذا استدل عليه المُصنِّف -رحمه الله تعالى- فقَالَ: إنه قد ثبت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى مراتب المحبة، كما سيأتينا بيان أنواع المحبة وأعلى مراتبها وهي الخلة، وهي ثابتةٌ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث: {إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً} فهما خليلان للرحمن جل شأنه،
ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه مسلم: {لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً} هذا لو كنت، أي: لو كَانَ لي من البشر خليل، كما في الروايات الأخرى: {إني أبرأ إِلَى الله أن يكون لي منكم خليل} فليس له من المخلوقين خليل، ولو أنه كَانَ متخذاً أحداً خليلاً من الصحابة لاتخذ أبا بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خليلاً.
ولهذا {لما سُئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّ النساء أحب إليك؟ قال: عَائِِِشَةَ، قَالَ: ومن الرجال؟ قَالَ: أبوها}
وهو أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حبيب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحب النَّاس إليه من المخلوقين، ولو كَانَ متخذاً خليلاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لاتخذ أبا بكر خليلاً، لأنه أحب أصحابه إليه، ولكنه خليل الله فقط، كما أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اتخذ إبراهيم خليلاً، فهما خليلان إبراهيم ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا قَالَ: {ولكن صاحبكم - يعني نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خليل الرحمن}.
وهذا معلوم لا ينكره أحد إلا الجهمية كما قلنا، لكن الذين اختلفوا فيه من غير الجهمية قالوا: إن إبراهيم خليل الله ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب الله، واضطرهم هذا إِلَى أن يقولوا: إن المحبة أفضل من الخلة؛ لأنهم يرون أن ما يثبت لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل مما يثبت لإبراهيم وأعلى.
فَقَالُوا: إن المحبة أعلى من الخلة؛ لأن إبراهيم خليل الله ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب الله، واستدلوا بحديث رواه ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولا فخر} وهو حديث في سنده ضعاف لا تثبت به حجة، ولا ينهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة التي سبقت.

وهذا القول أن المحبة أعلى من الخلة قاله بعض الصوفية لأنهم يتعلقون بكلمة المحبة.
وقد ذكرنا عبارة السلف في ذلك وهي: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله تَعَالَى بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد" فـالخوارج يعبدون الله تَعَالَى بالخوف وحده، والمرجئة يعبدون الله بالرجاء وحده والصوفية يعبدون الله تَعَالَى بالمحبة وحدها كما يزعمون.
ولهذا يستحلون كثيراً من المحرمات ويتركون الواجبات إِلَى حد أن بعضهم يترك جميع التعبدات ويقول: إن الحبيب لا يعذب حبيبه حتى أن بعضهم يقول: إن قلبي مشغول بمحبة الله، وإذا أشغلتني محبته عن عبادته وعن الصلاة له فإنه لن يؤاخذني عَلَى شيء من ذلك لأنه يعلم أنه ما أشغلني عن طاعته وعن صلاته إلا محبتي له، هكذا يزعمون وهذه هي الزندقة، ولذلك قال العلماء هذه المقالة: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق"، وهكذا كَانَ حالهم.

إذاً يبطل القول بأن الخلة خاصة بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، وأن المحبة خاصة بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سيما وأنَّا قد عرفنا أن الله تَعَالَى يحب المتقين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، إِلَى غير ذلك مما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليست المحبة خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل يدخل معه فيها كل من عمل عملاً صالحاً يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويحبه.